منصة عطاءات السودان tender.sd عطاءات السودان
Uncategorized

الطريق إلى الزعتري _ قراءة في رواية_ د. عواد جاسم الجدي

….فقد يتوازى الطريق إلى الزعتري مع سبل ودروب أخرى سلكها السوريون في رحلة تيه بدأت منذ ستين عاماً ونيف، ربما تكون ذات البدايات التي تحدث عنها الكاتب “محمد فتحي المقداد” في مستهل روايته (الطريق إلى الزعتري)، وضمنها في دفتر مذكرات المحامي خالد الهنيدي أثناء تواجده في القاهرة، قبل أن يصل إلى منفاه الفرنسي الأخير؛ بحثاً عن مستقبل موعود أضحى القاسم المشترك الأعظم لملايين السوريين، الذي غرّبوا خلفه، وهو يُشرّق، وأقسموا بقدسية الثورة ومبادئها أنهم لو شرّقوا راح يُغرّب .


أراد الكاتب بحبكةٍ واضحة المعالم بسيطة النهج والأسلوب البدء مرتين: مرة بمذكرات المحامي خالد التي دوّنها بداية في درعا مهد الثورة واستمر بتدوينها في غربته الأولى والثانية، ومرة بحديث أبي فندي ابن الحاجّة جواهر عن توالي الأحداث في قرية (موج) وما حولها منذ انطلاقة الثورة السورية من مهدها الأول درعا ثم استعرت في ما حولها …..!
لكنه بدأ بحياة الحاجّة جواهر أم محمد، وهي ابنة شهيد، وزوجة شهيد وإسقاطها بشكلٍ يتراءى لقارئٍ مستعجل أنه عابر على قرية (موج)، حيث وصل جمل “الحسين” رضي الله عنه وأرضاه.
وربما عرض الكاتب الحاجّة جواهر، وسيرة حياتها، وتعلقها بزوجها، وزهدها في الرجال من بعده، كرمزية لأصالة شعب عاش هناك، وتجذر، وأعفى نفسه من رمزية أخرى تمثلها نخلة أو شجرة توت أو زيتون، وربما سنديانة في حبكة روائية أخرى.
فقرية “موج” تغيرت كثيراً، وتطورت عمرانياً خارج مألوفها القديم، حيث انتشرت العمارات الطابقية الغريبة على ذوق الفلاحين وموروثهم، في حين حافظت الحاجّة جواهر على عذرية روحها، ونفسها بعد زوجها الشهيد الذي سقط على ثرى الجولان المقدس، ولم يعلم أن القيادة الحكيمة باعته في بازار سياسي؛ لتستأثر طائفة بذاتها باستعباد سوريه فيما بعد.
وعلى موجاتٍ هادئة من المد والجزر الروائي؛ قدم لنا “الكاتب المقداد” نماذج من أبطال روايته دون تكلف في الأسلوب، ولا ذر مساحيق التجميل على لغته السّمراء الجميلة، ولو أنه استخدم (مِرْوَد) الكُحُل مرات عديدة؛ ليُجمّل أجفان سطوره بإثمد محلي الصنع من الأمثلة الشعبية المتداولة في الريف الحوراني الضاربة جذوره في الأعماق.
ولم يجد الكاتب تكلفاً في إشاعة الانسجام بين(الحممجي/مربي الحمام) محمد الفهري ابن الحاجة جواهر الذي ترك وظيفة الكاتب في البلدية واهتم بأرض أبيه وزراعته، والمحامي خالد الهنيدي، وأحمد الفهيد مدرس اللغة العربية؛ فهم أصدقاء طفولة في قرية “موج”، وإن اختلف تحصيلهم العلمي؛ فلم يؤثر على انسجام عقلياتهم القروية النقية.
وبعفوية سردية من الكاتب قدم لنا بداية ثلاثة أبطال لروايته: الحاجّة جواهر التي تقاسمت المجد مع موج القرية الحورانية في أقصى الجنوب، والمحامي خالد كاتب المذكرات، ومحمد ابن الحاجّة.
يتدفق الوصف على لسان الكاتب الذي يشارك الراوي أحياناً، وحتى كاتب المذكرات؛ فتفهم من ذلك ارتباطه بوطنه الشام، وسهول حوران، وقريته “موج” ذلك الرحم الذي احتواه جنيناً وطفلاً وصبياً، ورجلًا بالغًا؛ يُعيل أسرةً ويرعاها.
فقبل أن يدخل الكاتب بسردية أدبية لأحداث الثورة السوريّة في درعا ومدنها وقراها، يختار الحمام رمزاً للحرية والسلام، حيث تزدان به سماء الحارة عندما يحلق عالياً (هذه المخلوقات اعتادت أن تكون حرة لتعيش بطريقة طبيعية، بينما الإنسان يعاني كثيراً من الخوف والتخويف، والإرهاب اليومي في كل شؤون حياته). ويتناول الحضيض الاجتماعي؛ متمثلاً بالمُخبرين (الذين يعملون بشكل يوصلون الليل بالنهار، لا يغيب عن أعينهم من وُكّلوا بمراقبته لحظة واحدة ).
جسّد الكاتب ذلك برمزية سردية واضحة غير عصية على الفهم، ولا تحتاج لإعادة قراءتها في قصيدة (تحت المجهر).
وأينما كان المُخبِر، وبأيّ مظهر يبدو، سواء بائع ألبسة قديمة (باله)، أم يتجرّد من ثيابه، ويُصوّر مع الإمام الذي أمَّ المُصلّين في صلاة الغائب على شهداء الثورة الأوائل؛ ليرسل مقاطع الفيديو لقناة الدنيا؛ لتشويه سمعة الثورة ومبادئها، يبقى مُخبِراً دنيئاً مهما برّر أعماله هذه.
في روايته عرض “المقداد” نماذج مختلفة من أفراد المجتمع الدرعاوي الريفي: (أبا عادل الدغري الذي لا يجامل، وأبا سالم، وأبا فرحان وأبا بشير)، وما الحوارات التي تدور بينهم، إلا انعكاسات الحالة الطبيعية من الخوف والذعر العام، بعد اندلاع مظاهرات درعا، والتي عمّت مدناً ومحافظات أخرى.
ثمة جدلية قديمة جديدة تمثلت بشخصية “أبي رستم” الشخصية الأمنية الهامة في قرية (موج)، والساحة التي يمارس صلاحياته فيها قبل الثورة وبعدها، وكيف وصل للعقل الباطن عند أبي فندي وارتباطه بالمنام الذي رآه وأفسد عليه يومه وليله، ارتباكه وسرد المنام لوالدته وصديقه أحمد التونسي،
لم يتعمق الكاتب كثيراً بوصف شخصياته، ولم يبتعد أفقياً في تحليلها؛ فرغم أنه لم يغُص في أعماقها ودوافعها، ورغم الحوارات البسيطة التي تصف الدوافع والسلوكيات ببساطة وعفوية أحياناً، فلا لوم عليه طالما أن شخصياته عفويه قروية بسيطة في دوافعها وتصرفاتها، تتحرك في أفق ريفي بسيط وبيئة لا تعرف تضاريسية التعقيد، ولا تعقيد العلاقات، ولو أن نساء القرية انقسمنَ كرجالها بين (مش عارفه الله وين حاطها) إلى (الله يعدّيها ع خير)، وهذه سمة المجتمع السوري كله تقريباً (باستثناء منتفعي الطائفة الكريهة) الحاكمة، والتي ترى من حقها فعل كل المجازر التي مورست بحق شعب طالب بأبسط حقوقه، كي يبقى تحت البسطار العسكري دوماً).
لا يغرنك هنا تناقض “أبي رستم” الذي تأرجح بين الخبز والملح، وتنكة الزيت الأصلي، وموقعه كرجل أمن يدفع بكل قواه لتسليح الثورة، وإشاعة الفوضى كي تصدق نظرية النظام أنها مؤامرة كونية ضد الرئيس، وضد القطر كونهما محور الصمود والمقاومة.
فحين أذهل “أبا رستم” كسر حاجز الخوف، وبدء الشعب بتحطيم أصنام جثمت على صدره نصف قرنٍ ونيف (يا إلهي أين ذهب الخوف فجأةً)، جاءت فرحة انطلاقة الثورة على لسان “أبي فهمي” المتخصص بالتاريخ، وهو الأستاذ المتقاعد الذي فسر خطاب الرئيس الذي انتظرته الملايين، ووصفه: بالمخيب للآمال، سمعه بعد طول انتظار، وانتقده بشده ومن جملة ما قال:
ها هي الأزهار تتفتح من جديد، تنثر سحب النور في آذار هذا، لتمسح ظلام آذار ذاك، هيا إلى النور من جديد، نقلب السحر على الساحر وننسف أنفاق الظلام الممتدة فينا بين ١٩٦٣ و٢٠١١.
ولو اكتفى الكاتب بذلك، لقدّم للقارئ بصورة أنيقة مشفاة من جدل السردية الروائية. صورة كافية وافية لحوار (أبي سمرة وأبي فهمي، وأبي بطة) الذين تجادلوا حول انتقاد خطاب السيد الرئيس، والذي اعتبره “أبو بطه” كُفر بواح بمبادئ الحزب والقائد.
السردية الروائية المطولة الشائقة أحياناً، والتي تحولت لتحليل سياسي في أدبيات الثورة في أحيانٍ أخرى، قد تبرر للكاتب أن الرواية بالأساس، هي مذكرات ويوميات كتبها المحامي خالد؛ ليوثق للأجيال القادمة آلام شعبٍ، عندما استولت عصابة مدعومة دولياً على أرضه، فاغتصبت جمالها، وامتصت خيراتها، وسرقت ثروتها، وهمّشت شعبها، حاربتهم في قيمهم، ومبادئهم، ودينهم، وامتطت لذلك مطايا البعث التي ركبها الكثير من السوريين.
فكلما حاول القارئ أن يذهب بعيداً في السردية الروائية التي التقمت الحوار، ليظهر مشافهة بين شخصيات الرواية، أو يتخيل نفسه يقرأ تحليلاً روائياً لحصار درعا بالدبابات، وإقامة الحواجز بين القرى بعد حرق المفارز الأمنية بالنيران، وكذلك مقر شعبة حزب البعث، وهروب العناصر والرفاق إلى السويداء، لإدارة الأمر من هناك بواسطة المخبرين. أعادنا الكاتب إلى جادة تبرر له فعل ذلك. أعادنا إلى المحامي خالد، وهو يرشف من فنجانه، ويتابع كتابة مذكراته (تراتيل الثورة) كما طاب له أن يُسمّيها؛ لهذا حرص الكاتب في بداية الجزء الثالث أن يذكرنا (المحامي يتابع كتابة مذكراته بشكل يومي بحرص منقطع النظير….).
يتابع المحامي كتاباته؛ ليصل إلى موت الحاجّة جواهر أم محمد، واعتقال فندي حفيدها الطالب في جامعة دمشق، وتقطيع أوصال القرى المجاورة لدرعا.
(هاجر الهديل… سكن الموت مكانه)
(هاجر الحمام … اقام الجنود مكانه).
لعلها صورة واضحة جاء بها الكاتب على لسان محاميه الذي دوّن مذكراته بسردية تاريخية لا محدودة؛ اخترقت أحياناً دوائر الزمان، وتأرجحت في مكان امتد بين قرية (موج)، ومخيم الزعتري. حيث استقر المقام أخيراً بأبي فندي وعائلته، في حين سافر الأستاذ أحمد منذ بداية الثورة إلى دولة خليجية بعقد عمل، ودخل المحامي وحقيبة مذكراته إلى عمّان ثم إلى القاهرة.
تأتي أهمية التوثيق في الرواية ذات ال ٢٤٩ صفحة؛ لتكون الهدف الأول الظاهر منها، وحريٌ بقارئٍ متمرن: أن يتوقّع النهاية انطلاقاً من عنوان الرواية. أن الطريق ستنتهي بهم إلى مخيم الزعتري، رحلوا تاركين خلفهم صمت الحمام الذي هاجر من أزيز رصاص “أبي رستم” وزبانيته، وزيتونة الدار التي دفن تحتها “أبو فندي” خاتم جدّه عهداً منه بالعودة إلى أرض الدار. رحلوا تاركين خلفهم بلداً عاثت به عصابة لا تنتمي للبشرية، ولا تمت لنواميسها بصلة، قتلت البشر والشجر والحمام وحتى الحمير.
للرواية مالها من إيجابيات كثيرة تحتاج لعشرات الصفحات لدراستها بإنصاف؛ كي نوفيها حقها، وعليها ما عليها لو وضعناها بميزان الرواية.
يكفي أنها رواية توثيقية سلطت الضوء على زاوية محدودة (من حوران هلّت البشاير).

د. عواد جاسم الجدي
أكاديمي وإعلامي، كاتب وناقد له أكثر من عمل أدبي.
ألمانيا – أيلول ٢٠٢٢

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى